مرتفعات الجولان: قصّة مسكوت عنها | ترجمة

قرية في الجولان المحتلّ

 

هذه ترجمة خاصّة لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لجزء من خاتمة كتاب «مرتفعات الجولان: قصّة مسكوت عنها» (2022)، تحرير منى دجاني، ومنير فخر الدين، ومايكل ماسون. 

ترجمة: علاء سلامة.

 


 

رسم خرائط لأجل المستقبل الجولانيّ

كيف ترسم خريطة مشهد أو منطقة تكشف عن علاقات الهيمنة؟ بحيث تضع حيّز الاستعمار الاستيطانيّ في سياق تاريخي وتنزع عنه طبيعيته؟ في وجه الثقل الجيو - سياسيّ الساحق لسياسة "الوقائع على الأرض"، والمستوطنات والآلة الاستيطانيّة، والقبضة المناطقيّة على الأراضي والماء والموارد الطبيعيّة، ونظم البنى التحتيّة والخدمات المحكومة بشبكات تحكّم مركزية للدولة الاستعمارية، والمناطق العسكريّة الّتي تثير الخوف وتجسد بشكل محموم الخطاب الصهيونيّ عن بناء الأمة اليهودية؛ أنشأ أهالي الجولان ثقافة بقاء. إنّ الرفض الشديد من قبل الأغلبيّة الساحقة من السكّان (أكثر من 85%) في الجولان المحتلّ للجنسيّة الإسرائيليّة، ولتصنيفهم من ناحية دينيّة فقط كـ "أقلّيّة درزيّة"، يفصح بالكثير عن تجاربهم المعاشة وردودهم على ظلم الاحتلال، الّتي تحتدّ على شكل مطالب او احتجاجات معادية للسلطات الإسرائيليّة. بهذه الطريقة، فإنّ تأكيدهم على هويّتهم العربيّة السوريّة، بغضّ النظر عن الانهيار والتشظّي العنيفين لسيادة الدولة السوريّة، يستمدّ جدليًّا من الإنكار الإسرائيليّ الدائم لكرامتهم وحقّهم في تقرير مصيرهم.

عليه نجد جغرافيا مضادّة حاضرة في الطرق الحياتيّة المختلفة الّتي يجسّد بها الجولانيّون ويموضعون إحساسهم الخاصّ بالجماعة، وينتجون مجتمعًا، وثقافة وبيئة تعاكس نسيج الاحتلال الإسرائيليّ. بالطبع، فإنّ ممارسات الحياة اليوميّة هذه ليست دومًا منيعة على الاختراق والتفتيت من قبل المصالح الاستعماريّة الاستيطانيّة المهيمنة، إذ نشهد حاليًّا حرّيّة أكبر للعمل على المخيّلة المجتمعيّة، أكثر منه لإنتاج واقع ماديّ مزدهر للمجتمع الجولانيّ.

 

الخرائط المضادّة 

إنّ رسم الخرائط المضادّة، أي خلق مخيّلات جغرافيّة قادرة على كشف الهيمنة للعيان، هو أحد الأساليب الّتي تستطيع تعطيل الخرائطيّة الرسميّة الّتي تعكس حسابات السيطرة والتحكّم. في مستوى أوّل من التفكير النقديّ، يمكن للنشاط الخرائطيّ المضادّ أن يستعمل الإحداثيّات الجغرافيّة التقليديّة من أجل رسم خرائط شبكات القوّة الاستعماريّة الاستيطانيّة، مثل المستوطنات اليهوديّة في الجولان، الّتي نعيد رسمها في خارطة مضادّة داخل مناطق محافظة القنيطرة السوريّة، إلى جانب الحدود المألوفة أكثر. بالإمكان كذلك، ضمن إسقاطات مكانيّة تقليديّة، تصوير آثار العنف الاستعماريّ الاستيطانيّ، مثل إظهار المجتمعات السوريّة الّتي هجّرتها القوّات الإسرائيليّة بعد تمّوز (يوليو) 1967.

عَمَلُ «المرصد» التأسيسيّ، الّذي أنتج خارطة عالية الجودة تتضمّن كلّ التجمّعات المحلّيّة قبل وبعد عام 1967، مثال آخر على رسم الخرائط الجولانيّة المضادّة للجغرافيا الاستيطانيّة الاستعماريّة. مثلما طوّر الفلسطينيّيون خرائط (جديدة)، بسبب الحاجة إليها بعد «اتّفاقيّة أوسلو» وسعيهم في بناء الدولة، فإنّنا نجادل بأنّ الجولانيّين شرعوا في مسعى لتحديد مواقع طردهم وحضورهم المتبقّي، من خلال إنتاج الخرائط (كجزء من أدوات الصمود). من نافل القول إنّه في الحالتين، لا يعني النقص في الخرائط نقصًا في معرفة الأرض، بل يعني الحاجة الملحّة لرسم الخرائط بسبب التغييرات الجغرافيّة والمناطقيّة الاستعماريّة الاستيطانيّة. لكنّ هذه الخرائط، في الوقت الّذي تكشف فيه الإزالة الّتي يقوم بها الاستعمار الاستيطانيّ، قلّما تكشف كيف يستطيع الحضور الأصلانيّ الجولانيّ إعادة موضعة نفسه في مشهد الجولان المستعمر - أو، تبعًا لإلسبيث إرالو، كيف تستطيع التجمّعات الأصلانيّة الاستمرار في استعادة الاعتراف، ليس ضمن منطق الاستعمار الاستيطانيّ، إنّما من خلال إعادة رسم خرائط تُبَدِّي القرابة والذاكرة في فهم وترجمة المشهد. إنّ إعادة رسم الخرائط يجب أن يخدم المستقبل الّذي تريده هذه المجتمعات الأصلانيّة، مبنيًّا على العدل والمساواة. 

في مستوى ثانٍ من التفكير النقديّ بالمسألة، فقد طوّر الناشطون والباحثون الأصلانيّون أساليب رسم خرائط أكثر ثوريّة من أجل تفكيك الجغرافيا الاستعماريّة الاستيطانيّة واستعادة تلك الهويّات والروابط المكانيّة والعلاقات البيئيّة الّتي محاها أو شرع التطهير العرقيّ في تفكيك معالمها. مشاريع رسم الخرائط هذه تسعى إلى التعبير عن جوانب أنثروبولوجيّة لتجارب المساحة المعاشة، أبعد من النظرة التجريديّة الموضوعيّة الّتي تملكها الخرائط التقليديّة المتمحورة حول الدولة. 

 

خرائط الذكريات

في مساهمتها في هذا الكتاب، تُظْهِرُ جمانة عبّاس بعض الطرق الّتي يمكن من خلالها، على النقيض من خرائط الهيمنة المكانيّة الإسرائيليّة، أن يكون ثمّة تمثّلات بصريّة للممارسات اليوميّة الجولانيّة، العاديّة منها والمتمرّدة ، بما في ذلك رسم خرائط للذكريات. تستقي جمانة من التجارب الكثيرة والغنيّة للجولانيّين، بما في ذلك أساليبهم في التعليم البديل عن ’المنهاج الدرزيّ‘ المفروض على أطفالهم. بإمكان رسم الخرائط المضادّة أن يأخذ أشكالًا وقوالب عدّة، من الشهادات التاريخيّة الشفويّة، إلى الفيديو والجداريّات والفعاليّات المجتمعيّة والممارسات الهادفة إلى تحرير إنتاج الخرائط والمعرفة المساحيّة. هل يمكننا أن ننتج خريطة تقع ضمن المعرفة المحلّيّة، منتجة فقط من أجل الأهداف الجمعيّة في توثيق وسرد التواريخ والتجارب المحلّيّة، ومع ذلك أنّ نظلّ قادرين على اعتبارها خارطة مهمّة، ومفيدة لجمهور أوسع، خاصّة في العالم الغربيّ؟ 

في الرسم 7.2 مثال على هكذا خريطة، والّتي تنقل ’الجغرافيا المضادّة‘ لسياسات الهويّة الجولانيّة، دامجة العربيّة بالإنجليزيّة، وتطالب، بوجه حقّ، من جمهور أنجلوفونيّ أن يفهم أيقونات بصريّة قد تكون غير مألوفة (مثلًا، تمثال «المسيرة» في مجدل شمس) - وتطلب من هذا الجمهور إذًا أن يتعلّم أكثر، من أجل أن يكشف طبقات من المعنى المفهومة أصلًا بالنسبة للجمهور الجولانيّ.

 

الخرائط التحرّريّة 

هل نستطيع أن نطوّر أسلوب رسم خرائط تحرّريًّا بغضّ النظر عن إمكانيّة أن يكون مفهومًا للغرباء، وأولئك الأقلّ اطّلاعًا على الجولان؟ حتّى لو خاطرنا بصعوبة الفهم، فإنّ الانخراط في فعل رسم (أو تفكيك) الخرائط الّتي تعكس الأحيزة الأصلانيّة، فيه قدرة تحرّريّة، فهو يتحدّى تصوّراتنا (المبسقة) عن المعاني والمعرفة المحلّيّة حول الوجود الأصلانيّ في الحيّز، والمكان، والوقت. إنّ الجولان - من هذا المنظور - تشكيل مكانيّ اجتماعيّ-سياسيّ فريد وغنيّ بالثقافة والمقاومة السياسيّة والمجتمعيّة المتمثّلة في سلوكيّات بقاء واستمرار يوميّة، على الرغم من الواقع الاستعماريّ الاستيطانيّ المستمرّ. 

يدفعنا رسم الخرائط المضادّ كذلك للذهاب أبعد من اعتبار رسم الخرائط ممارسة محدودة في الجغرافيا، ويدعونا إلى تضمين تجارب وقصص الأماكن والناس والذكريات، متجاوزين حدود الجغرافيا. إنّ رسم الخرائط المضادّ، بوصفه فعلًا مقاومًا، يجري كذلك من قبل أولئك المطرودين من جغرافيا الجولان: مثلًا: في فيلم آدم شابيرو الوثائقيّ المثير، «الجولان: قصر محروس» (2011)، تقودنا رشا العس - صحافيّة سوريّة تنحدر من جولانيّ مهجّر - في رحلة عودة إلى جباتا الزيت، قرية والدها. هل تستطيع الخرائطيّة المضادّة أن تخلق سرديّات شاملة حول الوطن والانتماء، لا تخدم الجولانيّين الّذين بقوا فقط، بل عائلات الّذين أجبروا على النزوح كذلك؟ نستطيع هنا فقط أن نلمّح إلى قوالب وممارسات مثل هذا التخيّل الجماعيّ، باعتبارها في جميع الأحوال جزء أصيل من تقرير الجولانيّين لمصيرهم ومستقبلهم الاجتماعيّ والسياسيّ. ما نأمل به هو أن يقدّم هذا الكتاب على الأقل مصدرًا للفهم، والتعامل النقديّ، مع الممارسات الاستعماريّة الاستيطانيّة، الّتي قامت، منذ وقت أطول بكثير ممّا يجب، بكتابة الجولانيّين خارج تاريخهم وجغرافيّتهم.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.